كان مقهى "أم السباع" الذي يتوسط سوقا شعبية في منطقة البصرة القديمة، ملتقى للنخبة ومنتدى للنقاشات السياسية والحوارات الأدبية عند افتتاحه قبل 86 عاما، وعلى أرائكه المصنوعة من جريد النخيل جلس الكثير من أدباء وشعراء وفناني وسياسيي ووجهاء وأعيان البصرة، لكنه اليوم يصارع البقاء بعد أن تقلصت مساحته الى أقل من النصف، وحاصره الباعة المتجولون ببضائعهم، ولو لا إصرار بعض المتقاعدين والمسنين على ارتياد المقهى لأغلق الى الأبد كما أغلقت أبواب معظم المقاهي التراثية في المحافظة.
ويقول صاحب المقهى ياسر عبد الحسين في حديث لـ السومرية نيوز، إن "المقهى اكتسب اسمه منذ تأسيسه في عام 1931 من تمثالين أبيضين لأسدين كانا منصوبين في حديقة عامة كانت تقع مقابل المقهى، لكنهما رفعا عند توسعة السوق، والحديقة تحولت الى مرأب للسيارات، وعيادات الأطباء القريبة من المقهى أصبحت محالا لبيع الخضار والفواكه"، مبينا أن "المقهى ظل حتى أواخر السبعينيات محافظا على مساحته وتصميمه القديم، ولكن قبل أعوام تم استقطاع مساحة منه لإنشاء محال تجارية، كما كانت العديد من الأرائك الخشبية موجودة خارج المقهى قبل أن ترفع وتحل محلها بضائع الباعة المتجولين".
ويشير عبد الحسين الى أن "معظم رواد المقهى الحاليين هم من المتقاعدين والمسنين الذين يتخذون من المكان ملتقى لهم للتواصل الاجتماعي، حيث يدخنون النرجيلة ويلعبون (الدومينو) ويتحدثون عن الشؤون العامة للبلد"، معتبرا أن "المقهى اكتسب شهرته ليس من قدمه فحسب، وانما لأن الكثير من مرتاديه القدامى هم من الشخصيات الاجتماعية والسياسية والتجارية والرياضية البارزة، مثل صندوق أمين البصرة صبري أفندي الذي حقق شهرة واسعة بسبب أغنية (الأفندي) للمطربة صديقة الملاية، وكذلك المؤرخ حامد البازي مؤلف كتاب (البصرة في الفترة المظلمة)، والمطرب الكويتي عوض دوخي الذي كان يتردد على البصرة لحين وفاته في عام 1979".
لم يزل المذياع القديم الذي ينتمي الى الثلاثينيات يقبع صامتا على أحد رفوف المقهى، بعد أن كان في زمن مضى يشكل ميزة تنافسية قوية للمقهى، فليست كل المقاهي كانت قادرة على اقتناء جهاز مثله حين كان سعره باهظا وتشغيله يتطلب ترخيصا رسميا، وبالقرب من المذياع توجد صورتان معلقتان على الجدار لمنتخبي البرازيل والارجنتين تعود الى عام 1998، وربما ذلك يعني ان المشجعين الرياضيين الذين كانوا يلتقون في المقهى قد هجروه في ذلك العام، وبذلك خلى المقهى للمتقاعدين الذين يكاد لا يرتاده سواهم، وعادة ما يخوضون نقاشات وحوارات كثيرا ما يطغى عليها الجانب السياسي وتنتهي بنكات ولعنات.
وبحسب أحد رواد المقهى الحاج حسين عبد الله، فإن "المقهى يجذب منذ أعوام المتقاعدين وكبار السن من المناطق القريبة منها"، لافتا الى أن "المقهى الذي يبدو قديما كان في يوم ما من المقاهي الحديثة الفخمة، بحيث أن البصرة لم تعرف لعبة (البلياردو) إلا من خلال أم السباع عندما كان يتولى إدارته عبد الوهاب أبو الشوربة الذي كان ينتمي الى حزب الاستقلال خلال العهد الملكي، وجعل من المقهى منطلقا لنشر أفكار الحزب".
ويضيف عبد الله أن "المقهى يبدو مهددا بالإغلاق لعدم وجود جدوى اقتصادية منه، ولن استغرب يوما إذا اكتشفت وجود محال جديدة لبيع الطرشي أو الخضار في موقعه"، معتبرا أن "أم السباع باعتباره أقدم مقهى في البصرة فهو يتمتع بخصوصية تراثية، ولذلك يفترض أن يحظى بشيء من الاهتمام الحكومي ليبقى ويستمر".
يذكر أن البصرة كانت تشتهر بكثرة المقاهي التي كانت تساهم في تغذية وتنشيط الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي في المدينة، ومعظم المقاهي القديمة لفظها الزمن وطواها الاندثار، وما تبقى منها يصارع البقاء أمام انتشار المقاهي الحديثة التي يقبل عليها الشباب، والتي تعرضت خلال العام الماضي 2016 العديد منها الى هجمات بعبوات ناسفة وقنابل صوتية، لكن تلك الاعتداءات لم تحد من انتشارها الواسع أو تقلل من الإقبال على ارتيادها.