الحمد لله العظيم المتعال، ذي العظمة والكبرياء والجلال، له الأسماء الحسنى والصفات العليا، أما بعد:
ألَا وإن القلب المعظِّمَ لله الذي يقدِّر ربه حق قدره، ويعظمه سبحانه وتعالى حق تعظيمه - هو ذلك القلب الذي تحقق فلاحُه ونجاحُه وسعادته في دنياه وأخراه، وإذا كان القلب معظمًا لله، فإن صاحب هذا القلب يعظِّم شرع الله، ويعظِّم دين الله، ويعرف مكانة رسلِ الله، وعرف أحقية الله عز وجل بالذل والخضوع له، والخشوع والانكسار بين يديه.
والله جل وعلا عظيم قد جاوزت عظمته عز وجل حدود العقول، ومن معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظَّم كما يعظَّم الله؛ قال الله تعالى: ﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴾ [مريم: 90].
لقد ذم الله تعالى من لم يعظِّمه حق عظمته، ولا عرَفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته؛ قال تعالى: ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴾ [نوح: 13]؛ أي: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته؟! إن روح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت العبادة.
إن
تعظيم الله يعود على العبد بفوائد كثيرة؛ منها أن المسلم الذي امتلأ قلبه بعظمة
الله لديه ثقة مطلقة بالله، فتجده هادئ البال، ساكن النفس، مهما ضاقت به السبل، كما أن استشعار عظمة
الله تملأ القلب رضًا وصبرًا.
إن معرفتنا بعظمة
الله تُورِث القلب الشعور بمعيته سبحانه، وتمنحنا الطمأنينة في المحن، والبصيرة في الفتن، كما أن استشعار عظمة
الله ومعيته تبعث في النفس معنى الثبات والعزة، وتقوِّي العزائم حتى في أشد حالات الضعف.
ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي
الله عنه قال: ((جاء حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول
الله صلى
الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إنا نجد أن
الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى
الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر؛ ثم قرأ رسول
الله صلى
الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67])).
ألَا وإنَّ من أعظم ما يعين العبد على تحقيق عبودية التعظيم للرب جل جلاله: أن يتفكر في مخلوقاته العظيمة وآياته الجسيمة، الدالة على عظمة مبدعها وكمال خالقها، إنها آيات عِظَام، وشواهد جِسام على عظمة المبدِع، وكمال الخالق: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190].
إن تفكُّر المؤمن وتأمله في آيات
الله العظيمة ومخلوقاته الباهرة تهدي قلبه، وتسوقه إلى
تعظيم خالقه، تفكر في هذه الأرض التي تمشي عليها وما خلق
الله فيها ستُحِسُّ من خلال تأملك لها أنها مخلوق عظيم، في عظمة باهرة تبهر القلوب وتشدها، فإذا نظرت إلى ما علمنا عن مخلوقات عظيمة بين الأرض والسماء، ازدادت لديك معرفة عظمة هذا الكون الفسيح، فإذا ما وسعت النظر، ونظرت فيما هو أعظم من ذلك، وتأملت في السماوات السبع، صغُرت الأرض وما حولها أمام هذه السماوات المحيطة بها، ثم إذا تأملت في ذلكم المخلوق العظيم الذي قال
الله عنه في أعظم آية في كتاب
الله قال جل شأنه: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ [البقرة: 255]: أي: أحاط بها، فتتضاءل عظمة السماوات، وعظمة الأرض أمام عظمة هذا الكرسي الذي هو مرقاة العرش، ثم تتضاءل هذه العظمة إذا تأمل العبد في النسبة بين عظمة الكرسي وعظمة العرش المجيد؛ أوسع المخلوقات وأعظمها؛ ثبت عن ابن مسعود رضي
الله عنه أنه قال: ((ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، والعرش فوق السماء، والله تبارك وتعالى فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه)).
وثبت في المسند من حديث أبي ذر رضي
الله عنه مرفوعًا أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: ((ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة))، هذه عظمة مخلوقات تأخذ بالقلوب وتشد النفوس، فإذا كانت هذه المخلوقات بهذا العظم، فكيف الشأن بمبدعها؟! وكيف الأمر بخالقها جل شأنه وعظم سلطانه وكمل في أسمائه وصفاته عز وجل؟
إذًا ما بال الإنسان يتغافل ويتجاهل، وينسى هذه الحقائق العظيمة والبراهين الساطعة، ثم يكون غافلًا عن
تعظيم ربه وخالقه ومولاه بتوحيده وعبادته ورجائه والخوف منه؟
إن القلوب إذا عظَّمتِ الله، عظُم في النفوس شرعُ الله، وعظُمت حرمات الله، وصلحت أحوال العباد؛ ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
وإن حال رسولنا في تعظيمه لربه لا يُوصف، فمن ذلك أنه لما قال له رجل: فإنا نستشفع بالله عليك - وهذا كمن يقول اليوم: جاه
الله عليك، ووجه
الله عليك، وأسوق
الله عليك - فقال النبي: ((سبحان الله، سبحان الله، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، أتدري ما الله؟! إن شأن
الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه)).
اللهم وفقنا إلهنا لتعظيمك وتعظيم شرعك، واهدنا إليك صراطًا مستقيمًا.
***